طرقاتٌ متهالكة: السياسة والبنية التحتية للنقل في كردستان العراق

Font size:
Print

English

مقدمة

مع فجر كل يوم جديد، تنشط حركة الشاحنات المحمّلة بالبضائع والسلع الأساسية ذهاباً وإياباً بين أربيل والسليمانية. لا تخلو هذه الرحلات اليومية من المشقّات والمخاطر، فالطرقات ضيّقةٌ ومتضرّرة للغاية، وهو ما يجبر السائقين على مضاعفة جهودهم ويعرّض حياتهم للخطر. لا تصلح عدة أجزاء من الطريق الممتدة على حوالي 200 كيلومتر بين أربيل والسليمانية للتنقل خصوصاً وأنها أحاديّة الإتجاه. وبغياب الصيانة الدورية، تفتقر الطريق لميزات الأمان الأساسية كعلامات وإرشادات المرور الصحيحة وأنظمة الإضاءة والإشارات المرورية التي تنظّم حركة السير. كما تتسبّب كثافة حركة الركاب والمركبات التجارية، وبضمنها الشاحنات القادمة من إيران وتركيا وبقية المناطق العراقية، بازدحام شديد عند نقاط التقاطع، ما يزيد من الإضرار بجودة سطح الطريق مالئاً إياه بالحفر والمطبّات.

لا شك بأن العواقب لا تقتصر على المدى القريب بل تنسحب على المدى البعيد أيضاً، إذ يعيق القصور على مستوى شبكات النقل بين أكبر مركزين اقتصاديين في إقليم كردستان العراق (أربيل والسليمانية)، التكامل الاقتصادي الهادف للمنطقة شبه المستقلة[1]. يظهِر ذلك خللًا صارخًا في سجل حكومة إقليم كردستان، إذ كيف يمكن تفسير إهمال الحكومة لهذه القضية الحيوية المتعلقة بالبنية التحتية؟ لماذا تعاني في استكمال مشروع طريق أربيل-السليمانية بينما قطعت مشاريع مماثلة في أماكن أخرى من إقليم كردستان شوطاً كبيراً ؟ يستعرض هذا التقرير تأثير سياسة توزيع الإيرادات التي تتبعها حكومة إقليم كردستان على تطوير شبكة طرق فرعية في المناطق الخاضعة لكلّ من الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK).

 

في إطار المشاريع الاستراتيجية المدرجة في الحكومة التاسعة لإقليم كردستان، أولينا اهتماماً كبيراً بإنشاء الطرق وتعزيز البنية الاقتصادية، وقد نفّذنا العديد من هذه المشاريع في عموم كردستان، كما نسعى لمواصلة توسيعها.

- رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني

لقد استفادت شبكات الطرقات الأخرى في إقليم كردستان بالفعل من استثماراتٍ كبيرة. وخلال حفل وضع حجر الأساس لبناء طريق سبلك – خليفان في محافظة أربيل في سبتمبر 2022، أوضح رئيس وزراء حكومة إقليم كردستان مسرور بارزاني أن تحسين الطريق كفيلٌ بتعزيز التواصل والنمو الاقتصادي[2]. وأضاف: "في إطار المشاريع الاستراتيجية المدرجة في الحكومة التاسعة لإقليم كردستان، أولينا اهتماماً كبيراً بإنشاء الطرق وتعزيز البنية الاقتصادية، وقد نفّذنا العديد من هذه المشاريع في عموم كردستان، كما نسعى لمواصلة توسيعها"[3]. وتكثر الأمثلة على المشاريع الناجحة التي توازي بنطاقها وأهدافها طريق أربيل-السليمانية تقريبًا. وعلى سبيل المثال، افتتحت حكومة إقليم كردستان طريقًا مزدوجًايربط أربيل بدهوك، ثالث أكبر مدينة في إقليم كردستان، في العام 2021 [4]. ولاقى المشروع إشادة باعتباره من الإنجازات الرئيسية للحكومة الإقليمية، نظرًا لأنه يوفر درجة أكبر من الأمان للمسافرين ويحفّز حركة التجارة والسياحة. ومع ذلك، يقع الطريق السريع بالكامل في نطاق سيطرة الحزب الديمقراطي الكردستاني.

 

عرض الحجة الرئيسية

تلعب الخلافات حول تقاسم الميزانية والنفط بين حكومة إقليم كردستان والحكومة الاتحادية في بغداد، دورًا محوريًا فيتحديد الوضع الاقتصادي للإقليم. ويميل المسؤولون في حكومة الإقليم لربط مشكلاتهم الاقتصادية بتعليق صادرات النفط عبرتركيا (منذ مارس 2023) وعدم الإنتظام في توفير الموارد من الميزانية الوطنية. وغالبًا ما يغيب عن النقاشات السياسية، أي تفسير صريح لعدم كفاءة حكومة كردستان في معالجة أساسيات التجارة والنمو الاقتصادي، بما في ذلك شبكات النقل. وذلك، علمًا بأن تحسين البنية التحتية للنقل حاسم لتعزيز النشاط الاقتصادي داخل الإقليم وتخفيف الضغوط اليومية الحياتية وتعزيز رفاهية المواطنين والتجار.

ويحلّل التقرير إشكالية شبكات النقل بين أربيل والسليمانية كنموذج للتحديات الأوسع أمام البنية التحتية الاقتصادية في إقليم كردستان. ويبيّن إخفاق شبكة الطرق القديمة والضيقة بين أكبر محافظتين في الإقليم، في دعم النقل التجاري بشكل فعال، بالإضافة للمخاطر التي تهدد سلامة المسافرين. وبغياب الخيارات البديلة، لا يمكن للشاحنات التي تنقل النفط والسلع التجارية الأخرى، بما في ذلك المواد الغذائية والبتروكيماويات ومواد البناء، إلا التنقل عبر الطرق غير الملائمة. وبالنتيجة، لا تقتصر السلبيات على تباطؤ حركة النقل بل تنسحب على نسبة الحوادث المرورية التي تزداد ومعها نسبة الوفيات الناتجة عنها [5].

ويدفعنا هذا الواقع لطرح السؤال: لماذا أهملت حكومة كردستان قضية تؤثر بهذه الدرجة على اقتصاد الإقليم وتعرض سلامة مواطنيه للخطر؟ الإجابة بسيطة: يستخدم الحزب الديمقراطي الكردستاني التمويل الحكومي المتاح لتطويرالطرقات الواقعة ضمن مناطق نفوذه (أربيل ودهوك). وبدوره، يعتمد حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الاستراتيجية نفسها في مناطقه (السليمانية). أما المناطق غير المحسوبة بشكل حاسم على حزب سياسي معين، كالطريق التي تربط أربيل بالسليمانية، فُتترك خارج معادلة التمويل. والحال سيّان بالنسبة للوكالات الحكومية التي تقود من الناحية التقنية، مشاريع البناء على مستوى الإقليم. رداءة الطرقات تشعل الاحتجاجات وتنعكس رداءة الطريق بين أربيل والسليمانية سلبًا على المواطنين وعلى المؤسسات في جميع أنحاء إقليم كردستان. ومع ذلك، تركزت الاحتجاجات في كويه (كويسنجق)، التي تقع على بُعد ساعة واحدة شرقًا من مدينة أربيل في الطريق المؤدي إلى السليمانية[6]. ويقوم السكان المستاؤون من الازدحام المروري ومن رداءة الطرق، بقطع الطريق الرئيسي الذي يمر عبر مدينتهم، بشكل دوري، بحواجز رملية لمنع المركبات الثقيلة من المرور. وروى أحد المحتجين من كويه في لقاء: "قطعنا مع سكان كويه الطريق مرارًا احتجاجًا على حوادث السير التي سلبت أرواح العديد من سكان بلدتنا. الشاحنات والصهاريج تعبر هذه الطريق الضيقة والقديمة يوميًا وهذا يضاعف خطر الحوادث ونسب الوفيات. نطالب بتوجيه تلك الشاحنات إلى طريقة بديلة"[7].

 

لماذا تهمل حكومة إقليم كردستان الطريق السريع بين أربيل وكوية؟ ألسنا جزءًا من هذا الإقليم؟ ألم نقدم تضحيات من أجل كردستان والقضية الكردية؟

- ناشط من كويه

وتتبع كوية، التي تضمّ أكثر من 95 ألف نسمة [8], إداريًا لمحافظة أربيل التي يهيمن عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني. ولكنها تقع في نطاق منطقة صغيرة خاضعة لنفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني. وتسبّب هذا التداخل السياسي والإداري بتراجع الخدمات العامة في كوية وبانتشار شعور واسع بالإهمال والتهميش بين سكانها. وفاقمت خطورة التنقل من أربيل إلى كوية هذا الإنطباع وحفزت المطالبة بتحسين الخدمات. وفي هذا السياق، ندد أحد الناشطين من كويه بالوضع مستنكرًا:" لماذا تهمل حكومة إقليم كردستان الطريق السريع بين أربيل وكوية؟ ألسنا جزءًا من هذا الإقليم؟ ألم نقدم تضحيات من أجل كردستان والقضية الكردية؟"[9], وتبعد أربيل ساعة واحدة فقط بالسيارة عن كويه، وهي تعدّ المركز الرئيسي للتعليم والأعمال والخدمات الطبية والأنشطة الاجتماعية في المنطقة. وبالنسبة لسكان كويه، لا يمثّل الافتقار لطريق آمنة إلى أربيل، خطرًا على السلامة فحسب، بل يُشكل عائقًا كبيرًا أمام الفرص الاقتصادية. وفي هذا السياق، يقول أحد خريجي الهندسة من كويه في مقابلة أجريت معه، كيف حالت متاعب التنقل بينه وبين مستقبله المهني. وقال: "أتيحت لي فرص عمل كثيرة في أربيل لكني اضطررت لرفضها بسبب مخاطر التنقل عبر تلك الطريق القديمة والضيقة. أفضّل التخلي عن وظيفة براتب جيد على أن أخاطربحياتي في حادث سير."[10], وعلى الرغم من حدّة الاحتجاجات على غياب طريق سريعة آمنة وفعالة في كويه، لا تقتصر التأثيرات على تلك البلدة فحسب بل تتعداها لتشمل جميع أنحاء إقليم كردستان. ويعلّق أحد سائقي الشاحنات ممتعضًا: "طرقاتنا غير صالحة للاستخدام. عليكم بالعثور على حلّ. كل الطرقات المتوفرة غير صالحة: طريق هافت-كوند وطريق شقلاوة، وحتى الطريق الحالية بين كوية وأربيل، كلها ما عادت متاحة"[11]. كما أفاد سائقو الشاحنات بأن الرحلات باتت أطول بمعدل ثلاث مرات بسبب رداءة الطرقات والاحتجاجات المتكررة والقيود التي تفرضها الحكومة على المركبات التجارية. وذكّر كل من سائقي الشاحنات والتجار بعواقب هذا الوضع حيث يتأخر تسليم البضائع وتتعرقل التجارة مع زيادة تكاليف النقل واستهلاك الوقود[12]. وهذا ما دفع بسائقي الشاحنات لتنظيم احتجاجات وإغلاق الطريق السريعة تعبيرًا عن غضبهم إزاء شبكة الطرقات المتهالكة[13].

 

الطريق السريع بين السليمانية-كويه

 

مشروع طريق أربيل-السليمانية.. إخفاق مستمرّ

تمثل شبكة الطرقات السريعة قيد الدراسة، جزءًا حيويًا من البنية التحتية في إقليم كردستان. وهي تلعب دورًا محوريًا في التجارة والأعمال من خلال ربط أربيل أي المركز الاقتصادي الرئيسي للإقليم، بالسليمانية، التي تعدّ مركزًا سكانيًا هامًا وممرًا أساسيًا للتجارة مع إيران. ويمكن تقسيم الطريق كما هي حاليًا إلى ثلاثة أقسام مترابطة:

1. القسم الأول: بدءًا من السليمانية ثم غربًا، يمتد هذا القسم على مسافة 67 كيلومترًا بين السليمانية وبلدة دوكان. ويواجه المسافرون عبره تحديات قليلة نظرًا للمسار المزدوج وميزات الأمان الكافية.

2. القسم الثاني: بعد دوكان، وفيه تضيق الطريق وتصبح أحادية الإتجاه. وتنفذ حاليًا أعمال توسعة لتحسين هذا القسم وتوفير مسار مزدوج، خصوصًا في مناطق نفوذ الاتحاد الوطني الكردستاني، من دوكان وصولًا إلى إدارة رابرين.

3. بمجرد الوصول إلى محيط كويه، يمكن ملاحظة توقف الأشغال بشكل لافت حيث تضيق الطريق المعروفة باسم "طريق أربيل-كويه" وتصبح أحادية الإتجاه. ويعيق هذا الواقع حركة المرور ويزيد من مخاطر السلامة. وفي هذا القسم، تصبح الطريق ضمن منطقة نفوذ الحزب الديمقراطي الكردستاني.

وبين عامي 2011 و2014، اقترحت حكومة إقليم كردستان تصميم طريق واسعة وملائمة للتنقل، بين أربيل وكوية. وكانت وزارة البناء والإسكان التابعة لحكومة الإقليم قد شرعت ضمن خطتها الرئيسية لعام 2010، بمشروع تطويرجميع الطرق الرئيسية أحادية الاتجاه وتحويلها إلى طرق مزدوجة[14]. ويغطي المشروع مسافة 61.7 كيلومترًا، بتكلفة إجمالية تقدر بـ 427.897 مليار دينار عراقي. وبعد تأمين التمويل من ميزانية حكومة الإقليم، قسّمت الوزارة المشروع إلى خمسة أجزاء وطرحت عقود البناء على شركات محلية ومقاولين دوليين من رومانيا وتركيا وإيران. ومع ذلك، توقف العمل في المشروع في العام 2014، ولم يكتمل سوى جزء بسيط من الطريق. ومنذ ذلك الحين، تعرض المشروع للإهمال بالكامل. (أنظر الجدول 1 للتفاصيل حول الشركات المخصصة والأجزاء المكتملة والمبالغ المنفقة) [15]. بحلول الوقت الذي توقفت فيه الأشغال بشكل كامل، كانت حكومة إقليم كردستان قد أنفقت بالفعل أكثر من 92 مليار دينارعراقي على المشروع. وقدّر المسؤولون في وزارة الإعمار والإسكان التكاليف الإضافية الضرورية لاستكمال المشروع بـ360 مليار دينار عراقي 16. ومع ذلك، لم تطرح أي خطط جادة لاستئناف العمل.

 

 القسم الخاص بالطريق

الشركة المتعاقدة

 المسافة (كم)

 

التكلفة (بالدينار العراقي)

الأموال المنفقة على هذا الجزء

(بالمليار/بالدينار العراقي)

 النسبة المنجزة

القسم الأول

(الطريق السريع)

 

دلتا الرومانية

(Romanian delta)
(قبل تسليمها لاحقًا لمقاول تركي

٢٠.٦

٩٤.٦٢٢.٧٩٥

 

٤٨.٠٢٣.٢٩٩

٥١%

القسم الثاني

(الطريق السريع)

شركة سينك Sink المحلية

وشركة يوساش ( yousash  التركية)

١٦.٢٦

٦٩.٧٤٩.٣٢٨

١٩.٦٠٥.٦٨٨

٢٨%

القسم الثالث

(الطريق السريع)

شركة آباد رحان بار

(abad rahan par) الإيرانية

١١.٥٨٦

٤٤.٧٦٢.٢٧٥

٧.٥٩.٨١١

١٦%

القسم الرابع

(الطريق السريع)

 

شركة آباد رحان بار

(abad rahan par) الإيرانية

١٣.٢٥

٥٨.٨٧٥.٩٣٥

٧.٥٧٠.٠١٥

١٣%

القسم الخامس

(نفق جبل هيبت سلطان)

 

ستراتوس  stratos الإيرانية

٤.٦

النفق

١٥٩.٨٨٦.٨٤٤.٣١٩

١٠.٠٧٢.٨٧١.١٧٠

٦.٣%

 

المجموع

٦١.٦٩٦

٤٢٧.٨٩٧.١٧٧.٣١٩

٩٢.٣٣١.٦١٤.١٧٠

 

[17] الجدول 1: التقدم المحرز على طريق إربيل-كويه 

وزعم مسؤولو حكومة كردستان أن المشاكل الاقتصادية التي يعاني منها الإقليم هي التي حالت دون قدرتهم على استكمال المشروع. وربطوا هذه المشاكل بتداعيات حرب داعش والخلافات بين أربيل وبغداد حول الميزانية، وتعليق صادرات النفط. وصرّح وزير الإعمار والإسكان في حكومة إقليم كردستان دانا عبد الكريم حمه صالح في إحدى المقابلات: "ننظر إلى طريق أربيل-كويه السريع باعتباره مشروعًا استراتيجيًا ومكونًا أساسيًا لشبكة الطرقات التي تربط أربيل بالسليمانية. وشكلت هذه الطريق منذ العام 2019، إحدى أهم أولويات وزارتنا. وقد طلبنا مرارًا من مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان تخصيص الأموال لإكمالها. ولكن المجلس أخفق بالاستجابة بشكل إيجابي، مشيرًا إلى نقص الأموال بسبب الأزمة المالية المستمرة"[18]ومع ذلك، يبيّن التحليل المتعمق للأسباب أن تبرير عدم إستكمال المشروع بالأزمة المالية، لا يعدّ عذرًا قويًا أو مقبولًا. وشهد العقد الماضي بالفعل إنجاز مشاريع مماثلة بالكامل، بينما يستكمل بعضها حاليًا في أماكن أخرى من الإقليم. كما تفيد التقارير بأن مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان الحالي نفذ منذ العام 2019، 624 مشروع بناء للطرقات في جميع أنحاء الإقليم، بتكلفة نحو 3 تريليون دينار عراقي[19]. وفي هذا الصدد، علّق أحد النشطاء من كويه بالقول: "نحن نعلم أن الحكومة تخصص أموالاً لإنشاء الطرقات والطرق السريعة في أجزاء أخرى من الإقليم. ونطالب بوضع حد لهذا التمييز وتخصيص الأموال أيضًا لإستكمال طريق أربيل-كويه السريع"[20]. (انظر الجدول 2 الخاص بتوزيع مشاريع الطرقات - المكتملة وقيد الإنشاء - في جميع أنحاء إقليم كردستان في عهد مجلس الوزراء الحالي).وتثير حجة "الأزمة المالية" التي تستخدم باستمرار كذريعة لعدم تنفيذ المشاريع جدلًا كبيرًا، خصوصًا في ما يتعلق بالفترة الممتدة ما بين عامي 2019 و2023. وفي تلك الفترة، يمكن القول إن حكومة إقليم كردستان الحالية، التي تشكلت عام 2019، عاشت فترة من الاستقرار المالي النسبي. وكانت قادرة على الوصول للبترودولار ومصادر التمويل الأخرى، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر، عائدات صادرات النفط المستقلة (التي توقفت في مارس 2023)، عدا عن حصتها الكبيرة في الميزانية الفيدرالية والإيرادات المحلية من الضرائب وعائدات الجمارك على المعابر الحدودية الدولية مع إيران وتركيا.

 

المحافظات والإدارات المستقلة

 

عدد المشاريع المنجزة

 

التكلفة بالمليارات (دينار عراقي)

 

عدد المشاريع طور التنفيذ

 

التكلفة بالمليارات (دينار عراقي)

 

محافظة أربيل

١٦٠

٤٧٣

٤٩

٦١٥

 

محافظة دهوك

٤٧

٣٨٦

٢٩

٢٠٥

 

محافظة السليمانية

١٣٧

٢٠٢

٥٥

٤٢٠

 

محافظة حلبجة

١٣

١.٧٦١

١٢

١٣٠

 

إدارة سوران

١٩

٢

١٣

١٠

 

إدارة رابرين

١٦

٣٠

٢٢

٣٠

 

إدارة زاخو

٤

٦٦

--

--

 

إدارة كرميان

٢٦

١٣

١٨

٢٠٧

الجدول 2: مشاريع الطرقات المكتملة وطور التنفيذ في إقليم كردستان العراق (2019-2024) [21]

من الناحية الإجرائية البحتة، لا شك بأن الخطوات الضرورية للمضي قدمًا معروفة وواضحة. ويعتمد استكمال المشروع وتخصيص وإنفاق المبلغ المتبقي (البالغ 360 مليار دينار عراقي لإكمال طريق أربيل-كويه)، بشكل كبير على الإرادة السياسية والتوجهات داخل مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان، الذي يهيمن عليه الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ويلعب رئيس الوزراء مسرور بارزاني، وهو عضو بارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني، ونائب رئيس الوزراء قوباد طالباني، من الاتحاد الوطني الكردستاني على وجه التحديد، دورًا رئيسيًا في عملية صناعة القرار[22]. فما هي الأسباب التي تحول دون إجماع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني حول هذا المشروع؟ في ما يلي، سنعالج تفسيرين محتملين: (1) الحسابات الأمنية والاستراتيجية للاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني و(2) العيوب في طريقة تقاسم الإيرادات بين الحزبين.

 

الحسابات الاستراتيجية

تعزو وجهة النظر السائدة في كل من أربيل والسليمانية تدهور البنية التحتية بين المحافظتين إلى الاعتبارات الأمنية بشكل كبير. وأشار المواطنون وسائقو الشاحنات في مقابلات، إلى الحساسية الاستراتيجية للمنطقة كسبب رئيسي لإحجام حكومة إقليم كردستان عن تخصيص الأموال لإكمال طريق أربيل-كويه. وهذا الأمر منطقي من منظور تاريخي. فبحلول نهاية الحرب الأهلية الدموية بين حزبي الإتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في التسعينيات، برزت المنطقة الواقعة غرب كويه كمنطقة عازلة تفصل بحكم الأمر الواقع بين مناطق السيطرة العسكرية للحزبين. ومن المرجح أن الانقسامات المتزايدة بين الإتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني في أعقاب فشل استفتاء الاستقلال لحكومة إقليم كردستان في عام 2017 عززت المخاوف الأمنية وانعدام الثقة بين الحزبين[23]. وبالنظر إلى هذه التوترات المتزايدة، ليس من المستبعد أن نستنتج أن قادة الحزبين يسعون للحفاظ على الحواجز المادية، كالطرق الضيقة والقديمة، للفصل بين مناطق نفوذهم. ووفقًا لهذا التفسير، اختارت قيادتا الحزبين التضحية بالفوائد الاقتصادية للطريق السريع من أجل تجنب منح الجانب الآخر ميزة عسكرية.

نحن نعتبر طريق أربيل-كويه مشروعًا استراتيجيًا ومكوّنًا حيويًا في شبكة الطرق التي تربط أربيل بالسليمانية. ومنذ عام 2019، كان هذا المشروع من أولويات وزارتنا، وقد طلبنا مرارًا وتكرارًا من مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان تخصيص الأموال لاستكماله. ومع ذلك، لم يستجب المجلس بشكل إيجابي، مشيرًا إلى نقص في الموارد المالية بسبب الأزمة المالية المستمرة.

-وزير الإعمار والإسكان في حكومة إقليم كردستان دانا عبد الكريم

وبالنظر للتاريخ العسكري المعقد والانقسام الأمني ​​المستمر، لا يمكن تجاهل البُعد الاستراتيجي-العسكري، ولكن في الوقت عينه لا يجب المبالغة بتضخيمه. وفي هذا الإطار، استبعد رئيس بلدية كويه، الذي ينتمي للاتحاد الوطني الكردستاني، هذا التفسير قائلاً إن "الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني ليسا في حالة حرب أهلية، بل يخوضان منافسة اقتصادية، حيث يستخدم كل حزب الإيرادات في مناطق نفوذه لتطوير تلك المناطق" [24]. والواقع أن التفسير الأكثر ترجيحا للتأخير في استكمال الطريق السريع يتعلق بكيفية توزيع الإيرادات على أساس الإنتماءات الحزبية.

 

آلية غير فعالة لتوزيع الإيرادات

تعدّ وزارة الإعمار والإسكان في حكومة إقليم كردستان الجهة الحكومية المسؤولة تقنيًا عن بناء طريق أربيل-كويه. وعلى الرغم من قدرة الوزارة على إتمام مشاريع الطرقات المعقدة، إلا أنها لا تتحكم بتمويل هذه المشاريع. وتخضع مالية الحكومة ببساطة لسيطرة كل من حزبي الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني. وتخصّص إيرادات الإقليم، عملًا باتفاق بين الحزبين يعود لعام 2019[25]، على النحو التالي: 57٪ للمناطق التي يسيطر عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك و43٪ لمناطق سيطرة الاتحاد الوطني الكردستاني في السليمانية[26]. ويشجع هذا التوزيع على استثمار الأموال لأغراض سياسية، حيث يمكن للأحزاب تخصيص الموارد لمشاريع في مناطق نفوذها لتعزيز سلطتها السياسية والمحلية. أما كويه فيكتنف وضعها الغموض والضبابية، نظرًا لأنها خاضعة إداريًا لإدارة أربيل وسياسيًا للإتحاد الوطني الكردستاني.

الأعمال الإنشائية على الطريق السريع بين مدينة السليمانية وإدارة گرميان ضمن منطقة نفوذ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. (مصدر الصورة: صفحة حكومة إقليم كردستان على الفيسبوك)

وهذا ما وضعها خارج نطاق اهتمامات الحزبين والأموال المخصصة لمشاريعهما. ويستخدم الحزب الديمقراطي الكردستاني، حسب ما أوضح مستشار في وزارة الإعمار والإسكان في إحدى المقابلات، "إيراداته لإنشاء الطرقات والطرق السريعة في أربيل ودهوك، بينما يركز الاتحاد الوطني الكردستاني على مشاريع مماثلة في السليمانية"[27] وبالتالي، تفتقر الوزارة للقدرة المالية لتنفيذ مشاريع كبيرة تعتبر ضرورية للمصالح الاقتصادية العامة للمنطقة، مثل طريق أربيل-كويه. وأضاف المستشار: "الميزانية التي خصصها الحزبان لوزارة الإعمار والإسكان والتي يمكن لهذه الأخيرة الوصول إليها دون الحاجة لموافقة مجلس الوزراء، متواضعة للغاية ولا تغطي إلا المشاريع الصغيرة وتكاليف صيانة الطرقات"[28]. ويعقد نقص الشفافية المالية في إقليم كردستان تمويل المشاريع التي لا تعود بالفائدة السياسية المباشرة على الأحزاب في السلطة. وأوضح الوزير دانا عبد الكريم في مقابلة أن "وزارة المالية في حكومة الإقليم لا تملك اطلاعاً شاملاً على الإيرادات ما خلا بعض المصادر الرسمية لها". وأضاف أن الشؤون المالية "مقسّمة بين كيانات مرتبطة بالحزبين الرئيسيين. وليس هناك من قانون موحد للميزانية كما يشوب الغموض توزيع الأموال. وهذا ما يفضي إلى تخصيص الأموال لبعض المشاريع مقابل إهمال مشاريع أخرى مثل طريق أربيل-كويه"[29].

ويبقى مشروع طريق أربيل-كويه ضحية لترتيبات مالية تخدم المصالح الحزبية، ويزداد الوضع تعقيدًا بفعل التنافس السياسي بين حزبي الإتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.[30] وبغياب المبررات الواضحة لرفض تمويل استكمال الطريق السريع، يصرف قادة الإتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني الانتباه عن فشل المشروع وينخرطون في تبادل الاتهامات. وزعم أحد أعضاء المكتب السياسي للإتحاد الوطني الكردستاني في مقابلة أن "المسؤولين المرتبطين بالحزب الديمقراطي الكردستاني في الحكومة يحجبون التمويل عن السليمانية لإضعاف حزبنا".[31] وردّ أحد قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني بالقول إن "الاتحاد الوطني الكردستاني يريد سحب الإيرادات من أربيل ودهوك لصالحه، بينما يحتكر الأموال في السليمانية. وهذا ما لا نقبل به".[32] وفي خضم المعركة الخطابية، يتجاهل الطرفان واقع استحالة إتمام بعض مشاريع البنية التحتية الحيوية في الإقليم إلا بالتعاون المشترك. وفي الوقت نفسه، تساور المواطنين المتضررين من هذا الفشل المستمر الشكوك إزاء الإتهامات المتبادلة من الطرفين. وعلق أحد الناشطين من كويه بالقول: "إذا كان الطرفان قادرين على التعاون لبيع النفط عبر شاحنات الصهاريج، فما الذي يمنعهما من التعاون واستثمار عائدات النفط في إستكمال الطريق السريع بين أربيل وكويه؟"[33]

ومنذ تعليق صادرات النفط عبر خط أنابيب حكومة إقليم كردستان وتركيا، باتت الحكومة تصدّر النفط إلى تركيا وإيران عن طريق الصهاريج. ويقال إن جزءًا كبيرًا من هذا النفط يصدّر عن طريق إيران، حيث تعبر الصهاريج الطرق القديمة والضيقة بين أربيل والسليمانية.[34] ونظرًا لأن السلطات الإقليمية لم توفر معلومات واضحة حول إيرادات النفط، اتهم النشطاء وشخصيات المعارضة الإتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني باختلاس الأموال.[35]

 

التداعيات السياسية

يشكل إنشاء شبكات الطرق المنفصلة بناء على مصلحة الحزبين السياسية -مع تهميش المناطق الواقعة بينها- خطرًا على التنمية المستدامة والإستقرار العام في إقليم كردستان. ومن ناحية أخرى، يبذل قادة الحزبين السياسيين قصارى جهودهم لدحض الاتهامات حول عودة الحكومة إلى فترة تقسيم المناطق الإدارية، ويرفضون الإدعاءات حول انهيار التماسك الداخلي وصولا إلى نقطة اللا عودة. ويصرّ المسؤولون على أن شحّ الأموال أو ما يسمونه بـ"الأزمة المالية" هي السبب وراء تأخير ربط أربيل بالسليمانية. لكن هذا التبرير يتناقض مع الواقع، إذ أن بناء الطرق في العديد من المناطق التي تخدم المصالح الاقتصادية والسياسية للحزبين بشكل أساسي، لم يتوقف. ويعتبر الطريق السريع الذي يربط أربيل بالسليمانية مشروعًا حيويًا للبنية التحتية. أما التأخر في إحراز أي تقدم، لا سيما في الجزء الممتد بين أربيل وكويه، فلا يؤثر على نمو اقتصاد الإقليم بشكل سلبي فحسب، بل يعرض سلامة المواطنين للخطر. وهذا ما يستدعي تعاون حزبي الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني والعمل معًا لتجاوز العوائق السياسية والمالية التي تعرقل تنفيذ المشروع. وختامًا، ينبغي على قادة الحزبين إعادة النظر في نظام توزيع الإيرادات الحالي بنسبة 57-43، خصوصًا وأنه شجع ظهور مناطق اقتصادية منفصلة مع شبكات طرق غير مترابطة. كما يجب تخصيص الأموال العامة لدعم مشاريع البنية التحتية التي تخدم المصالح الاقتصادية الأكبر للإقليم وشعبه، بدلاً من توجيهها نحو مشاريع سياسية ضيقة، تحت طائلة تعميق الإنقسامات السياسية في الإقليم وخلق شرخ بين الدولة والمجتمع.

 

سيتم تضمين هذه المقال في العدد العاشر من نشرة العراق الاقتصادية.