English
ابتداءً من أشهر الربيع من عام 2024، سيطرت صور السدود الممتلئة بالمياه و الأنهار الفائضة على القنوات التلفزيونية ووسائل التواصل الاجتماعي العراقية، و ذلك نتيجة للأمطار الوفيرة في هذا العام. على الرغم من الحاجة الشديدة التي يغطيها موسم الأمطار غير المعتاد هذا، فإن الخبراء يشككون في الاستدامة طويلة الأجل لهذا الوضع. إن مواسم الجفاف المتتالية على مدار السنوات الأربعة الماضية قد دفعت العراقيين إلى التشكيك في استراتيجيات الحكومة في التعامل مع أزمة نقص المياه المطولة. فقد أدى الضرر الناجم عن مواسم الجفاف المتتالية هذه إلى خفض الإنتاج الزراعي وحرم العديد من العراقيين من حقوقهم الأساسية في المياه. وكانت لهذه التأثيرات آثار كارثية خاصة على المجتمعات الهشة أمام التغيرات المناخية، مما أدى إلى تدهور سبل العيش والنزوح و تزايد الشكاوى المتعلقة بالخدمات. بالإضافة إلى هذه التأثيرات، إن نقص المياه وسوء الإدارة تركت آثاراً مزمنة على النظم البيئية الغنية في العراق. حيث يتم فقدان حوالي 250 كيلومترًا مربعًا من الأراضي الصالحة للزراعة سنويًا، مع اختفاء 60٪ من أشجار النخيل التي تعتبر رمزاً من رموز العراق خلال السنوات العشرين الماضية. علاوة على ذلك، فإن العديد من البحيرات الطبيعية قد جفت بالكامل، وتقلصت مساحات الأهوار بشكل كبير، حتى أصبحت أعداد أنواع معينة من الحيوانات مثل جواميس الأهوار والطيور المهاجرة في انحدار سريع.
يوفر موسم الأمطار هذا العام فرصة لاستعادة ما فقدته الأهوار العراقية وبناء قدرة مجتمعاتها المحلية على الصمود خلال مواسم الجفاف المستقبلية.
لكن كيف يفهم المسؤولون العراقيون هذه التحديات والمسارات التي يمكن أن يسلكوها للمضي قدماً؟ أجرى فريقنا البحثي في معهد الدراسات الاقليمية و الدولية(آيرس) على مدى العامين الماضيين، مقابلات مع مسؤولين حكوميين في الوزارات المعنية لفهم مواقفهم، فضلاً عن حضور المؤتمرات والاجتماعات ذات الصلة بين صناع السياسات العراقيين. سأركز هنا على المحادثات التي أجريتها في مؤتمر بغداد الدولي الرابع للمياه في وقت سابق من هذا العام، حيث كانت هذه المحادثات مثالاً جيداً لشكل الحوار بين الجهات الحكومية المختلفة لرسم السياسة المائية في العراق. وقد أكد المؤتمر على الشعور المتزايد بين الجهات الحكومية بضرورة استعادة الثقة مع الشارع بشأن تأمين الموارد المائية في الأمد البعيد.
لا شك في أن سياسات المياه والبيئة تؤثر على سبل العيش الأساسية للعراقيين. وتشمل هذه التأثيرات امكانية الحصول على مياه الشرب والاحتياجات الصحية، فضلاً عن كون المياه مصدر دخل وأسلوب لحياة العديد من المجتمعات الزراعية ومجتمعات الأهوار. وفي الوقت نفسه، تتطلب الطبيعة العميقة والمتعددة الأوجه للتحديات البيئية في العراق سياسات اقتصادية وموارد مالية للتخفيف من هذه التأثيرات والتكيف مع الحوادث المناخية المتطرفة. على سبيل المثال، تحتاج الحكومة إلى الاستثمار في البنية التحتية لمعالجة المياه واستخدام مواردها المائية الحالية بكفاءة أكبر. بالاضافة الى ذلك، فإن انخفاض الناتج الزراعي وتأثيراته على الأمن الغذائي وسبل العيش يتطلب سياسات اقتصادية تحفز المزارعين على التحول نحو ممارسات زراعية أكثر إستدامة. لذلك، يجب على الحكومة وضع زيادة كفاءة نظام إدارة الموارد المائية كأحد أولوياتها، والعمل على استعادة النظم البيئية، و زيادة قدرة المجتمعات المحلية على الصمود في وجه التغيرات المناخية، وضمان الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي على المدى الطويل والحفاظ على بيئة مستدامة.
الحاجة أم الاختراع
لقد أشار المسؤولون العراقيون منذ فترة طويلة بأصابع الاتهام إلى دول المنبع المتشاطئة، وخاصة تركيا وإيران، لاستغلال مواقعهما الجغرافية و حرمان العراق من حصصه المائية مع إيلاء قدر أقل من الاهتمام لإدارة المياه على المستوى الداخلي في العراق. لكن تشير مقابلاتنا مع مسؤولين حكوميين إلى أن هذا التركيز قد يكون في طور التغيير. فقد أظهرت سنوات من المفاوضات غير المجدية من قبل صناع السياسات العراقيين مع دول المنبع أنه لم يعد من الممكن تجنب الاستثمار في الإدارة الداخلية للمياه بعد الآن. ففي نهاية المطاف، غالبًا ما تلقي تركيا باللوم على العراق لإهداره المياه بسبب استخدام أساليب الري غير الفعّالة كما تزعم، مما يضعف موقف العراق التفاوضي. ولكن إدارة المياه الداخلية في العراق بدأت تكتسب أهمية أكبر. فقد أكد مسؤولون من وزارة الموارد المائية ووزارة البيئة العراقية خلال المؤتمر مرارًا وتكرارًا على أهمية تحسين إدارة المياه داخلياً قبل معالجة قضايا أوسع نطاقًا مثل دبلوماسية المياه.
تجلى هذا التركيز من خلال عرض مسؤولين من وزارة الموارد المائية لتقنيات الحفاظ على المياه خلال المؤتمر، مثل تغطية مجاري المياه باللحاف الخرساني، مما يحسن تدفق المياه للوصول إلى مناطق المصب. ويأتي استخدام مثل هذه التقنيات في تآزر مع التقدم البطيء ولكن الملحوظ الذي أحرزته وزارة الزراعة في التحول من الري السيحي إلى أنظمة ري أكثر تقدمًا مثل أساليب الري المحوري. كما شهد المؤتمر توقيع مذكرة تفاهم بين وزارة الموارد المائية العراقية ووزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري التونسية إلى جانب مناقشات أخرى مع وزارتي المياه في مصر والأردن لتبادل التكنولوجيا والخبرات في إدارة المياه.
بالاضافة الى ذلك، حلت المناقشات حول التعاون في مجال المياه العابرة للحدود محل الخطاب المتسم بالمواجهة تجاه تركيا وإيران الذي كان القاعدة منذ فترة طويلة. حيث صرح نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التخطيط الدكتور محمد تميم في كلمته خلال المؤتمر بأن العراق يجب أن يسعى إلى الوصول لسياسات مائية مشتركة مع الدول المتشاطئة معه. وقد كرر هذا البيان اتفاقية الإطار الاستراتيجي للمياه الأخيرة الموقعة بين العراق وتركيا، والتي قادها مكتب رئيس مجلس الوزراء وتمحورت حول الشراكة مع الشركات التركية في مشاريع البنى التحتية للمياه.
قد أظهرت سنوات من المفاوضات غير المجدية من قبل صناع السياسات العراقيين مع دول المنبع أنه لم يعد من الممكن تجنب الاستثمار في الإدارة الداخلية للمياه بعد الآن.
بالرغم من أن معالجة قضية المياه كجزء من حزمة من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية الأخرى كانت بلا شك خطوة واعدة إلى الأمام، إلا أن مصادر حكومية تشير إلى أن مكتب رئيس مجلس الوزراء لم يشرك وزارة الموارد المائية بالشكل المطلوب في تصميم الاتفاق. وقد أعرب أحد مسؤولي وزارة الموارد المائية بشكل خاص عن إحباطه إزاء عدم مشاركة وزارته في العديد من هذه المساعي الدبلوماسية. ووفقاً لبعض المسؤولين في وزارة الموارد المائية، فإن الافتقار إلى قائمة ثابتة وقوية من الخبراء الفنيين والدبلوماسيين العراقيين في المفاوضات مع تركيا يضعف قدرة الحكومة على الاستفادة من المعرفة الفنية والبيانات بشكل فعال في هذه المحادثات.
الطريق من الأمن المائي إلى الحماية البيئة
إن الأمن المائي وحده لن يكون كافياً لمعالجة سنوات من التدهور البيئي التي عانى منها العراق. وسوف يظل نقص المياه تهديداً دائماً في الأمد البعيد بسبب تغير المناخ وانعدام التعاون عبر الحدود. لذا ينبغي للحكومة أن تستثمر طاقاتها في تعزيز الحماية البيئية، وخاصة بالنسبة للمجتمعات المعرضة بشكل مباشر لآثار التدهور البيئي. يوفر موسم الأمطار هذا العام فرصة لاستعادة ما فقدته الأهوار العراقية وبناء قدرة مجتمعاتها المحلية على الصمود خلال مواسم الجفاف المستقبلية. وذلك يتم من خلال إحياء البنى التحتية الأساسية للمياه وخدمات النظم البيئية في الأهوار ــ وبالتالي دعم مجتمعات الأهوار من خلال تحسين سبل معيشتها ــ هذا من شأنه أن يساعد تلك المجتمعات على تحمل مواسم الجفاف القاسية في المستقبل وتخفيف الحوافز التي تدفعها إلى الهجرة.
استعرض المؤتمر العديد من المشاريع المبتكرة التي تهدف إلى تعزيز الحماية البيئية بالتعاون مع منظمات التنمية الدولية. ومن بين هذه المشاريع مشروع "الإدارة المستدامة للمياه والزراعة في الأهوار - العراق"، الممول من الوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي (سيدا) والمنفذ من قبل الاتحاد الدولي لحفظ الطبيعة (IUCN)، والذي يهدف إلى زيادة كفاءة المياه في الزراعة وتعزيز قدرة صمود مجتمعات الأهوار المحلية في مواجهة تغير المناخ من خلال استخدام حلول قائمة على الطبيعة. ومن بين مكونات المشروع إنشاء الأراضي الرطبة الاصطناعية، وتوفير وحدات تخزين لسكان الأهوار لتخزين منتجات الألبان، و توفير فرص لتطوير مشاريع صغيرة للنساء لتسويق هذه المنتجات.
ولكن لا يستفيد من هذه المشاريع حتى الآن سوى عدد محدود للغاية من المناطق ولا تتناسب مع خطة أوسع نطاقاً للبنى التحتية للمياه والنظم البيئية. سوف يعتمد مدى تحقيق مثل هذه المشاريع لتأثير ملموس على تنفيذها واستدامتها وجدية الحكومة في توسيع نطاقها عبر مناطق جغرافية أوسع.
باختصار، كشف المؤتمر عن اهتمام متزايد بتبني نهج أكثر شمولاً لإدارة المياه يتضمن عناصر الاستدامة و بناء القدرة على الصمود. حقيقة تبني وزارة الموارد المائية لهذا النهج تعني أنها عليها التنسيق بشكل وثيق مع وزارة البيئة لضمان استخدام الأموال والموارد بشكل أكثر كفاءة. ولكن بطبيعة الحال، لطالما تنافست الوزارتان في كثير من الأحيان على التمويل المحدود الوارد من الموازنة الوطنية والمنح الدولية بدلاً من تنسيق الجهود. على الرغم من هذا الافتقار إلى التنسيق الهادف بين الوزارات، إلا أنه لمن المبشر أن الاهتمام المتزايد بموضوع بناء قدرة المجتمعات المعرضة على الصمود أمام آثار التغيرات المناخية قد يفتح المجال لمزيد من المانحين الدوليين للتعاون مع الجهات الحكومية لتنفيذ مشاريع الاستدامة و تعزيز القدرة على الصمود.
نحو حوكمة تشاركية
في حين أن الاهتمام الحكومي المتزايد يشكل خطوة في الاتجاه الصحيح، فإن وزارة الموارد المائية ووزارة البيئة لا تستطيعان توسيع نطاق الجهود الرامية الى تعزيز قدرة النظم البيئيى على الصمود دون مساعدة المجتمع المدني في مختلف أنحاء العراق. ويتعين على الحكومة أن تضمّن مشاريع النظم البيئية في أولوياتها الطويلة الأجل عبر الوزارات المختلفة بطريقة شفافة وشاملة تقوم على مبدأ اشراك المجتمع المدني. ومن شأن هذا النهج أن يضمن استدامة الجهود التي تسعى الى استعادة النظم البيئية وبناء قدرة المجتمعات على الصمود في وجه التغيرات المناخية المناخية بالتوازي مع أخذ الإحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية وواقعها بعين الاعتبار.
إن الإدارة الكفوءة للمياه، واستعادة النظم البيئية، وبناء القدرة على الصمود كلها احتياجات أساسية للعراق لمكافحة عصر التغيرات المناخية وتدهور الموارد الطبيعية. ما تشترك فيه هذه المساعي هو الحاجة الماسة إلى دعم حكومي أكبر لفتح المجال أمام الحوكمة التشاركية...
لقد افتقر المؤتمر إلى التمثيل الكافي لمنظمات المجتمع المدني المحلية. إن العراق يتمتع بوجود مجموعة متنوعة و غنية من منظمات المجتمع المدني والناشطين ذوي الخبرة الطويلة في مجال حماية البيئة. إن هذه الفرصة الضائعة تسلط الضوء على قصر النظر من جانب الحكومة و ميلها إلى إهمال التعاون مع المجتمع المدني في جهود الحوكمة البيئية. فدعم المجتمع المدني لقيادة المبادرات المجتمعية التي تستخدم أساليب مبتكرة مثل علم المواطن وحملات المناصرة من شأنه أن يعزز العمل البيئي التشاركي ويسد الفجوة الحالية في الثقة بين الحكومة والمجتمعات المحلية.
مع ذلك، إن إشراك المجتمع المدني في هذه الجهود يتطلب الدقة والشفافية في البيانات، وهو ما لم يتم تناوله خلال المؤتمر. رغم ذلك، أكد العديد من المشاركين من المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية على أهمية زيادة تواتر جمع البيانات، وتحسين التنسيق في مزامنة البيانات بين الوزارات، ومشاركة البيانات مع الباحثين والجمهور. إن الافتقار إلى شفافية البيانات يعيق مشاركة الجمهور في عمليات المساءلة البيئية وصنع السياسات. خلال محادثاتي مع المسؤولين الحكوميين خلال المؤتمر وفي المناسبات السابقة، أعربوا عن تحفظاتهم بشأن شفافية البيانات. قال أحد المسؤولين: "يمكن تفسير البيانات المتعلقة بكمية ونوعية المياه بشكل خاطئ أو استخدامها لأغراض ضارة من قبل أشخاص يسعون إلى تحقيق غايات أخرى غير المصلحة الفضلى للعراق. على سبيل المثال، يمكن استغلال هذه البيانات من قبل تركيا لتقويض مطالب العراق في التفاوض على الحصص المائية".
إن مثل هذه المخاوف بشأن التداعيات الدبلوماسية لتبادل البيانات مبالغ فيها. لطالما كان الافتقار إلى القدرة على الوصول إلى البيانات دور كبير في إعاقة الجهود الجادة في المساءلة والبحث العلمي في العراق. لقد حان الوقت لمكتب رئيس مجلس الوزراء والبرلمان العراقي لضمان توفير آليات قانونية مناسبة تسهل تبادل البيانات وتضمن حق المواطنين في الوصول إلى المعلومات. إن الإدارة الكفوءة للمياه، واستعادة النظم البيئية، وبناء القدرة على الصمود كلها احتياجات أساسية للعراق لمكافحة عصر التغيرات المناخية وتدهور الموارد الطبيعية. ما تشترك فيه هذه المساعي هو الحاجة الماسة إلى دعم حكومي أكبر لفتح المجال أمام الحوكمة التشاركية، وبالتالي ضمان إشراك المجتمعات الأكثر تضررًا من تدهور النظم البيئية - وفقدان سبل العيش الزراعية و الدخل المصاحبان لذلك - في تحديد المسار المستقبلي لهذه الجهود.
ستنشر هذه المقالة في النسخة العاشرة من نشرة العراق الاقتصادية.